الأحد، 23 مارس 2008

لن يكون وداعا / قصة قصيرة


اهداء/ والدي الى اللقاء

كانت اجمل أوقاته تلك التي يقضيها في مدخل البيت جالساً على الاريكة القديمة الموضوعة خصيصاً له قبالة الحديقة، لم يكن يتكلم كثيراً، صوته لم يكن مسموعاً باستمرار خاصة بعد ان فارقتنا امي.. في لحظة انفلات قد تأتي وقد لا تأتي، تبقى مرسومة في مخيلتي تلك الصورة القديمة، وتساؤلات لا اجد لها حتى التفسيرات الصغيرة.. فهل بامكاني ان اتخيل انه في زمن ما كان طفلاً! تحمله جدتي.. تهدهده.. تغني له بصوتها الحنون اغينة النوم؟
ام هل استطيع ان المحه صبيا في العاشرة حين فقد امه بشظية انفجار فاجاتها وهي تحمل الماء من النهر ابان الحرب الكونية الاولى؟ هل كان يبكيها؟ هل كان قد بحث عن حضن أم غادرته من دون سابق موعد.. من دون وداع؟ وهل تراني املك القدرة على استنفار ذاكرتي لالتقطه وحيداً يحاول الخلاص من دوامة النهر بعد سقوط الحافلة التي كانت تقله إلى مكان ما وهو بملابسه الثقيلة تسحبه وسط اجواء برد قارس حد الانجماد وكيف تمكن من الافلات وحده من الحافلة واستطاع العوم إلى ضفة النهر الأخرى هل كان شجاعاً إلى هذا الحد أم انها الرغبة في البقاء؟ قلت لم يكن يتحدث كثيراً انها اشياء انفلتت منه في احيان متباعدة..!
وأعود إلى ذاكرتي استحثها استنطقها وأسألها عن تلك اللحظة التي قرر فيها الاقتران بأمي تلك الطفلة الصغيرة ذات الثلاثة عشر عاماً وكان هو في سن تجاوزت الثلاثين لتنجب له اخواتي واخوتي وأنا.. هل أستطيع أن أرحل بذاكرتي المتآكلة إلى ذلك العالم البعيد لأعرفه اكثر فأكثر..؟ لماذا لا أتذكر الا القليل؟ لماذا تغيب عن مخيلتي كل مفردات الصور لتلتقط فقط لوحة تشكلت أمامي بعد رحيله بثلاثة أيام وهو يقف قبالة امي التي كانت ترتدي ثوباً أخضر.. عروس صغيرة بجدائل سود طويلة تبتسم خجلاً، وهو رجل قوي بلباسه العربي وعقاله وصايته العربية المهيأة لعريس في ليلة زفاف..
كل شيء في ذاكرتي يبحث له عن بوابة تشرع له الذكرى بكل طوفانها وحكاياتها ولكن لماذا لم يبق في ذهني سوى مشهد رجل عجوز احنى الدهر قامته يتكئ على عكازه القديم وهو يحاول الترجل من حافلة تقله إلى مكان ما.. كان ما زال يقدم قدماً ويؤخر اخرى وهو بعد على عتبة سلم الحافلة حين تحركت وكان السائق شارداً غافلاً عما يجري حوله.. الجميع يصرخ.. والعجوز يستغيث فلا هو بقادر على الامساك بالبوابة، ولا هو بقادر على النزول، دورة.. دورتان.. ثلاث، توقفت الحافلة ولكن بعد ان دار العجوز بين عجلاتها.. تجمهر الركاب وكنت ارقب المشهد برعب كأنه الزلزال- حوله ولم يجدوا سوى عكاز قديم ملقى وسط الدماء على اسفلت الشارع..!
كم من الزمن مضى حين عايشت هذا المشهد لعلي كنت في المرحلة الابتدائية غير انه امر لا يغيب عن ناظري كلما تطلعت إلى وجه أبي المتغضن بعوامل الدهر والشيخوخة، واتكأ إلى عكازته لمدة ما غادرها إلى الفراش ثم إلى القبر. لا ادري ما هو وجه المقارنة بينهما لعله صوته الواهن الذي كان يبعث في داخلي ذلك الاحساس المرعب كالزلزال والخوف بألا أعود لسماعه مجدداً حالة ما لا أعرف كيف أصفها عششت في داخلي حين اعلن لي هاتف الصباح عن رحيل أبي.. هل استطعت البكاء، ام تمكنت من الصراخ، ام لعلي وجهت نقمتي على أي شيء حولي وعلى كل ما في هذه الحياة من متاهات ودوامات طاحنة تسحق بدورانها كل ما يصادفها كيفما وأينما كان..؟ لا ادري! فقط شبح ذلك العجوز الذي اعتصرته عجلات الحافلة تمثلت امامي وانا واودع والدي إلى مثواه الاخير.. لتصرخ تلك الحقيقة في وجهي ان الموت هو الابقى لكنه الارقى مجهولاً كان ربما! لكنه أفضل بكثير من حياة مضببة متصلبة لا حياة فيها.. وتأكدت لحظتها ان الدمعة التي.انحدرت من عيني امي لحظة مغادرتها هذا الكون لم تكن وداعاً وانما كانت الى لقاء..
سلام

ليست هناك تعليقات: